لم يتخيل أي من أفراد الأسرة أن هذه الأدوية وأجهزة الأكسجين وجلسات الاستنشاق ستكون بمثابة الرفاق الجدد للطفل محمد خلال السنة الأولى من حياته، فعندما تحسنت حالته بعد مرور عدة أسابيع عاد الالتهاب الرئوي لمباغتة رئته وإثارة ذعر الأسرة مجددَا، ومرة أخرى احتُجز الطفل ووالدته لعدة أيام في نفس الغرفة التي مكثا فيها سابقًا .
بعد ولادته بثلاثة أشهر، فوجئت آية، 24 عامًا، بازرقاق جلد رضيعها، وتسارعًا شديدًا في تنفسه، توجهت آية وزوجها أحمد فورًا إلى أقرب مستشفى في قريتهم الواقعة بحي الهرم بمحافظة الجيزة، حيث قرر الطاقم الطبي أن الطفل بحاجة ماسة للأكسجين بعد تشخيصه بالإصابة بالتهاب رئوي حاد تطلب مكوثه في المستشفى لعدة أيام حتى تستقر حالته.
بعد 4 أيام قضاها الطفل على أجهزة الأكسجين تحت ملاحظة الأطباء، نقل العلاج إلى المنزل مع المواظبة على 3 جلسات استنشاق يوميًا في أحد المراكز أو الوحدات الصحية لمدة غير محددة، بالإضافة إلى مجموعة من الأدوية المتنوعة بين المضادات `الحيوية والفيروسية، ومضادات الالتهاب، وخافضات الحرارة ومهدئات السعال وغيرها.
على الرغم من أن الوضع المادي للأسرة لم يكن جيدًا إذ يعيش الطفل ووالديه في منزل الجد والجدة لعدم قدرتهم على شراء منزل مستقل، إلا أن المحنة التي بدأت منذ أكتوبر 2022 استمرت خلال الشهور التسعة التالية، مكث الطفل في المستشفى خلالها عدة مرات أخرى.
تقول الأم “اقترضنا من أجل الإنفاق على المبيت المتكرر في المستشفى، وفي 31 يوليو 2023 أتم ابني عامه الأول الذي قضى معظمه على أجهزة الأكسجين ولم يكن يوم مولده استثناءً فضيق التنفس والسعال والحمى لم يقصروا في الاحتفال بمولده”.
تغير المناخ والأمراض الرئوية
أثرت العواقب السلبية للتغيرات المناخية على العالم بأسره، لا سيما في الدول النامية أو الدول متوسطة ومنخفضة الدخل، التي تتحمل تبعات ليست مسؤولة عنها كونها لا تقوم بأنشطة تنتج “الغازات الدفيئة” غاز ثاني أكسيد الكربون وغيرها من الغازات المسببة للاحتباس الحراري والتي تعتبر المحرك الأساسي للتغيرات المناخية. هذه التبعات تشكل تحديات على الدول النامية تفوق قدرتها على المعالجة خصوصًا مع ضعف التمويل وعدم الإستقرار السياسي والإقتصادي.
بحسب منظمة الصحة العالمية فإن الظواهر الجوية المتطرفة التي تزداد تواترًا، مثل موجات الحر والعواصف، الفيضانات، تعطل النظم الغذائية، زيادة الأمراض الحيوانية المنشأ، والأمراض المنقولة بالأغذية والمياه والنواقل، تنعكس على صحة الإنسان وتسبب الوفاة، وأول الأشخاص الذين تتضرر صحتهم على نحو أسوأ نتيجة للأزمة المناخية هم الأقل إسهاما في أسبابها، وأولئك الأقل قدرة على حماية أنفسهم وأسرهم من تلك الأضرار.
ووفقًا لموقع المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، فإن التقلبات السريعة في الطقس بين الحرارة والبرودة لها تأثيرات خطيرة على الصحة “فالحرارة والبرد الشديدان يمكن أن يتسببا في حالات مرضية مميتة، مثل الإجهاد الحراري أو انخفاض حرارة الجسم”، فضلًا عن ضعف الجهاز المناعي ومن ثم التقاط العدوى والفيروسات بشكل أسرع، وزيادة معدلات الوفاة الناجمة عن أمراض القلب والجهاز التنفسي مثل الالتهاب الرئوي. وحسب اليونيسف، فإن تغير المناخ يهدد قدرة الطفل على البقاء والنمو حيث يتحمل الأطفال دون الخامسة 90% تقريبًا من الأمراض الناتجة عن تغير المناخ.
إن المسببات الرئيسية لتلوث الهواء هي في الأصل عوامل بشرية ناتجة عن الممارسات السلبية في المجالات المختلفة كالزراعة والصناعة والنقل وغيرها، إلا أن العوامل الطبيعية والبيئية المتطرفة أيضًا من أهم أسبابه.
يسبب ثوران البراكين والعواصف الرملية والترابية التي تنقل جزيئات الهواء الدقيقة عبر آلاف الأميال تلوثًا شديدًا للهواء يؤدي إلى زيادة الإصابات بالأمراض وخاصة الأمراض التنفسية الحادة والمزمنة، برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
تسمى جزيئات الهواء الدقيقة بالهباء الجوي، ويُعرَّف بأنه “تعليق الجسيمات الصلبة أو السائلة المحمولة بالهواء، بحجمها المعتاد بين بضعة نانومترات و 10 ميكرون الموجودة في الغلاف الجوي لعدة ساعات على الأقل”، وهي من أهم مسببات تغير المناخ، ولذلك لا يمكن فصل تغير المناخ عن تلوث الهواء، وخاصة عند الحديث عن تأثيرها على صحة الإنسان.
مصر أكثر دول المنطقة تضررًا
أوضح تقرير اليونيسف في أكتوبر 2022 أن أكثر من 550 مليون طفل في العالم يواجهون تواترُا مرتفعًا لموجات الحر، و أكثر من 600 مليون طفل آخرين يتعرضون لواحد من مقاييس الحرارة الثلاثة المرتفعة الأخرى، ومن المتوقع زيادة هذا العدد بحلول عام 2050 ليصل إلى 2 بليون طفل.
مصر من البلدان الأكثر تضررًا من التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية، فوفقًا للموقع الرسمي لوزارة البيئة المصرية، فإنها تتعرض لعدد كبير من المخاطر أهمها ارتفاع مستوى سطح البحر، وارتفاع درجات الحرارة الذي يؤدي بدوره إلى انتشار الأمراض، بالإضافة إلى نقص الموارد المائية والإنتاجية الزراعية وتلوث الهواء والماء وما يترتب عليهم من سوء تغذية، كما تزداد مستويات حبوب اللقاح في الجو والتي تعتبر من محفزات الحساسية الصدرية وأمراض الجهاز التنفسي.
أوضح مؤشر مخاطر المناخ على الأطفال CCRI في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الصادر عن اليونيسف في أكتوبر 2022، أن مصر احتلت المرتبة الأولى في قائمة الدول المُعرضة بشدة للصدمات المناخية والبيئية، ومن ثم فإنها تقع في منطقة المخاطر الشديدة للغاية بدرجة 7.3 من أصل 10 درجات، كما أنها تحتل واحدًا من أعلى 3 مراكز بين دول المنطقة في 4 مؤشرات مخاطر من أصل 7.
على الرغم من احتلال مصر لمراكز متقدمة في فئة الدول ذات المخاطر الشديدة، إلا أن المؤشر أوضح أيضًا أنها حصلت على 3 درجات فيما يتعلق بالهشاشة للصدمات المناخية والبيئية، مُندرجة بذلك في فئة المخاطر المنخفضة والمتوسطة، ويعني هذا أن توفر الخدمات الأساسية للأطفال وجودتها كالمياه، والصرف الصحي، والتغذية، والتعليم، والرعاية الصحية أعلى من المتوسط الإقليمي بشكل عام.
في تقرير لليونيسف عززت مصر التزاماتها للتصدي لتغير المناخ والتخفيف من عواقبه، على الصعيدين المحلي والدولي، كما أنها استثمرت، في رفاه الأطفال، مع التركيز على العائلات الأكثر هشاشة والمناطق الجغرافية الأكثر حرمانًا”.
وبالرغم من ذلك، وفق تقرير آخر لليونيسف، في 29 سبتمبر 2022 احتلت مصر المركز 28 بين 193 دولة تساهم في انبعاثات غاز الاحتباس الحراري عام 2018 بمعدل 329.4 مليون طن بسبب اعتمادها على الوقود الحفري بنسبة 91% في إنتاج الكهرباء. في 2020 بلغ معدل الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة 5.65% فقط من إجمالي مصادر الطاقة، وتستهدف مصر تحقيق نسبة 42% بحلول 2035.
وتثبت هذه الإحصائيات أن مصر ما زالت في حاجة إلى تكثيف جهودها للتصدي لمشكلات تغير المناخ والحد من غازات الاحتباس الحراري، ومن ثم الحد من انتشار الأمراض الناتجة عنها، وهو ما تستهدف تحقيقه في إطار الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر (NCCS 2050) والتي أطلقتها في نوفمبر 2021.
الأطفال أكثر عرضة للأمراض
الأطفال هم الأكثر عرضة للمشاكل الصحية الناتجة عن التغير المناخي بسبب مجموعة من العوامل البيولوجية والسلوكية، خصوصًا أمراض الجهاز التنفسي كون معدل التنفس لديهم أكثر مقارنةً بالبالغين، ما يزيد من تعرضهم لملوثات الهواء، كما أن مجاري الهواء الضيقة لديهم أكثر عرضة للانقباض بسبب تلوث الهواء ومن ثم تنشق المواد المسببة للحساسية.
وتكثر إصابتهم بأمراض الجهاز التنفسي بشكل خاص: كالحساسية الصدرية والتهاب الشعب الهوائية والالتهاب الرئوي، الذي يعتبر تفاوت درجات الحرارة والتقلبات الجوية، بالإضافة إلى تلوث الهواء والماء وسوء التغذية الأسباب الرئيسية لانتشار هذه الأمراض.
أعلنت اليونيسف في 2016 أن “2 مليار طفل يعيشون في أماكن تفوق فيها نسب تلوث الهواء معايير منظمة الصحة العالمية، وتحتل أفريقيا المركز الثاني بعدد 520 مليون طفل بنسبة 26%”.
أفاد الدكتور محمد سامي تركي-استشاري الأمراض الصدرية وأمراض الجهاز التنفسي، ومُدرس بقسم الصدر بكلية الطب بجامعة طنطا- أن الالتهاب الرئوي يصيب نسيج رئة الإنسان، ويختلف عن الالتهاب الشُعبي الذي يعتبر التهابًا أقل خطورة من الالتهاب الرئوي و يُصنَّف الالتهاب الرئوي بأكثر من صورة، وأكثرهم شيوعًا التصنيف القائم على نوعية الميكروب، وهكذا تنقسم الالتهابات الرئوية إلى 3 أنواع هم الالتهابات الرئوية البكتيرية، الفيروسية، والفطرية، وتشيع الإصابة بالاتهاب الرئوي الفيروسي بين الأطفال أكثر من الأنواع الأخرى، يليها الالتهاب الرئوي البكتيري ثم الفطري.
بشكل عام تتشابه أعراض الالتهاب الرئوي بين الأطفال تحت سن الخامسة، والتي تتنوع بين ارتفاع درجات الحرارة، وأعراض أمراض الجهاز التنفسي كسيلان الأنف، والزكام في حالة إصابة الطفل في البداية بالتهاب الجزء التنفسي العلوي في الأنف ثم يصل للرئة، بجانب السعال الشديد، وضيق التنفس، وفي حالة الإصابة الخطيرة فقد يتغير لون الجلد للأزرق نتيجة نقص مستوى الأكسجين في الدم، وهنا يحتاج الطفل إلى المستشفى وأجهزة الاكسجين.
يؤكد دكتور تركي أن التلوث بكافة أشكاله أحد العوامل المهمة المسببة لضعف مناعة الجهاز التنفسي جنبًا إلى جنب مع التعرض لدرجات حرارة متفاوتة في فترات زمنية قصيرة.
يوضح الفيديو جراف التالي الأنواع المختلفة للالتهاب الرئوي وفرص انتقال العدوى والعلاج، بالإضافة إلى إحصائيات انتشار المرض بين الأطفال دون سن الخامسة.
خطر تكرار الإصابة
مضاعفات الالتهاب الرئوي كثيرة ومتطورة، فهناك مضاعفات قصيرة المدى تحدث خلال فترة قصيرة من الإصابة وتنتهي بانتهائها، بينما يكمن الخطر في حالة حدوث الالتهاب الرئوي الحاد الذي قد يسبب نقص الأكسجين، وخصوصًا إذا تكررت الإصابة بهذا الشكل على فترات متتالية مما يهدد بإمكانية حدوث أمراض مزمنة وأنواع من التليفات في الرئة، أو تمدد شعبي، أو انكماش في أحد فصوص الرئة مما يضطر الطفل للعيش بكفاءة رئة أقل من الطبيعية.
يوجد قصورًا شديدًا فيما يتعلق بتلقي العلاج المناسب، إذ يحصل طفل واحدة فقط من بين كل 5 أطفال مصابين بالالتهاب الرئوي في أفريقيا على العلاج وفقًا للتقارير الصادرة عن اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى وجود نقص في توفير أنظمة الأكسجين والمضادات الحيوية في البلدان النامية.
تلزم هذه الحالات الخطيرة تشكيل فريق من الأطباء والاستشاريين المتخصصين ليحددوا سبب تكرار الإصابة وعلاجه لتفادي تطور الأعراض وحدوث مضاعفات خطيرة قد تصل إلى الوفاة وأيضًا لتجنب الإصابة مستقبلًا.
كيف نتصدى للتهديدات المستمرة؟
يقول الدكتور محمد صلاح شبيب، استشاري طب الأطفال وحديثي الولادة: “لا يمكن فصل تأثير الوعي والثقافة العامة عن العوامل الأخرى، فيجب على الوالدين إبعاد الطفل عن كافة مسببات التلوث، والحفاظ على نظافة الطفل و المنزل، وتوفير التهوئة الجيدة”.
ويضيف شبيب أن القائمين على إدارة الروضة والمدارس يجب أن يحققوا تباعدًا مناسبًا بين الأطفال، و يحثونهم باستمرار على نظافة أيديهم وغسلها جيدًا بعد العطس أو السعال، وقبل وبعد تناول الوجبات، أو عند القيام بأنشطة جماعية.
ويشدد استشاري الأطفال على أهمية تواجد الفصول أو الغرف في أماكن جيدة التهوية، وتقليل عدد الأطفال داخل الحجرة الواحدة، مؤكدًا على ضرورة عزل الطفل المشتبه في إصابته عن باقي الأطفال وبقائه في المنزل حتى الامتثال للشفاء.
ويؤكد كلًا من استشاري الأمراض الصدرية، واستشاري طب الأطفال على ضرورة الاهتمام بالتغذية السليمة والابتعاد عن الطعام السريع والإكثار من تناول الخضراوات والفاكهة والألبان، وبالنسبة للرُضع فإن الرضاعة الطبيعية تمد الطفل بالأجسام المضادة من جسم الأم ومن ثم ترفع من مناعة الطفل وتقيه من الإصابة أو تقلل من المضاعفات في حالة حدوثها.
وورد بتقرير اليونيسف في أكتوبر 2022 أن أكثر من 45 مليون طفل في العالم عانوا من سوء التغذية الحاد في 2020 بينهم 75% يعيشون في بلدان الدخل المتوسط الأدنى، وينتج عن هذا تأخر النمو والإصابة بالأمراض والوفاة.
تتسم المشكلة بالعالمية ولذلك فالأسرة وحدها لا يمكن أن تتصدى لها، ففي مصر تحديدًا تمثل أمراض الجهاز التنفسي خطورة شديدة على حياة الأطفال وحديثي الولادة بشكل أخص، إذ أثبت المسح الصحي للأسرة المصرية في 2021 المنشور بموقع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن أمراض الجهاز التنفسي الحادة وخصوصُا الالتهاب الرئوي من أكثر الأسباب الشائعة لوفيات الأطفال، وهناك 14% من أطفال مصر دون سن الخامسة أصيبوا بأعراض أمراض الجهاز التنفسي الحادة خلال الأسبوعين السابقين للمسح.
ومن جانبها تقوم وزارة الصحة والسكان المصرية بفرض لقاحات إلزامية تُعطى للأطفال منذ الولادة، وقبل بلوغ 18 شهر يجب أن يكونوا حصلوا على كافة التطعيمات، بينها لقاحات عدوى وأمراض الجهاز التنفسي مثل لقاح السعال الديكي، والدرن أو السل، ولقاح الأنفلونزا البكتيرية.
يجب على الأطراف المعنية تكثيف جهودها في مجال مكافحة التغيرات المناخية خلال الفترات القادمة، ولكن الأهم أن تربط بين هذه الجهود والأخرى المبذولة في تطوير قطاع الصحة ومكافحة الأمراض وخاصة التنفسية للحد من انتشار الالتهاب الرئوي، و زيادة التمويل في مجالات الرعاية الصحية للأطفال مع التركيز على الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالالتهاب الرئوي والأمراض الصدرية.