ثمار مجعدة غير مكتملة النضج تملأ الأرض.. نبرة صوت متحسرة تصاحبها تعليق”عوّضك الله خيرًا”، مجهود عام كامل أضاعته عاصفة هوائية، فيديو شاركه المزارع أحمد ميدو، صاحب العشرة أفدنة من المانجو بمحافظة الشرقية بمصر، على فيس بوك، يصاحبه تعليق “محصول السنة تساقط في ساعة وإنا لله وإنا إليه راجعون”
“منظر تلك الثمار الملقية على الأرض يصيبني بالحسرة.. وبعد أن بلغ المحصول 26 طن في عام 2022 وصلت بالكاد إلى 10 طن العام 2023، أسامة حشيش مزارع يملك ثمانية أفدنة بمدينة السادات بمحافظة المنوفية (بالدلتا) هو الآخر تأثرت أشجار بموجة صقيع في فبراير خفضت عدد الثمار على الشجرة الواحدة من 50 حبة إلى 20 ثمرة.
أحمد وأسامة ليسا الوحيدين الذين يخسرا محاصيل المانجو بسبب التغيرات المناخية، بل يوجد بمصر مئات المزارعين الذين تأثروا بالمناخ المتطرف هذا الموسم، وبين موجات الحرارة والبرودة، العواصف والأمطار، يقف مزارعو “ملكة الفواكه” عاجزين.
زراعة المانجو من أهم الأنشطة الزراعية في مصر، فتعد مصر عاشر أكبر منتج للمانجو في العالم، والأول عربيًا ، وتعتمد مصر عليها إلى جانب أنواع أخرى من الفواكه في دعم الاقتصاد من خلال التصدير، وفي 2022، زادت صادرات المانجو بمصر بنسبة 100٪ بزيادة 39 ألف طن عن السنة التي قبلها وفق تصريح مدير وحدة الصحة النباتية، ووحدة فتح الأسواق الجديدة بالحجر الزراعي، المهندس محمد مجدي في مؤتمر معرض أجرو إيجيبت.
تتربع محافظة الإسماعيلية على عرش إنتاج المانجو منذ سنوات، تليها منطقة النوبارية ثم محافظة الشرقية، إلا أن هذا العرش تزعزع منذ العام 2012-2013، حيث تفوقت النوبارية على الإسماعيلية في الإنتاج، بمساحة مزروعة تصل لنصف مساحة الإسماعيلية.
يقول الدكتور محمد محسن عبد القوي، باحث بمعهد بحوث البساتين التابع لمركز البحوث الزراعية إن تفوق النوبارية على الإسماعيلية في السنوات الأخيرة لا يتعلق بجودة التربة بل بمدى تطبيق أحدث الأبحاث العلمية في الزراعة والإنفاق المستمر على رعاية الأرض، حيث مزارع النوبارية مملوكة لمستثمرين ومؤسسات على عكس الإسماعيلية التي يشكل المزارعين المحليين فيها النسبة الأكبر، وبشكل عام تعتمد منطقة النوبارية على نظم الزراعة والري الحديثة، وفقا لدراسة أجرتها الإسكوا.
وعلى مدار 15 عاما، ظل الإنتاج بمحافظة الإسماعيلية عند حد الـ 300 ألف فدان مع تذبذبه من عام إلى عام، بالرغم من تضاعف المساحة المزروعة من 46.6 ألف فدان عام 2005 إلى 110.5 ألف فدان في العام 2019-2020.
تطور الغطاء النباتي لمحافظة الإسماعيلية على مدار السنوات
يفسر الدكتور محمد عبد القوي، هذا التذبذب في إنتاج المانجو بالاسماعيلية بأن المزارع في منطقة رطبة ومحاطة بالبحر، مما يؤدي لتحسين جودة الثمرة من ناحية لكن يعرضها نشاط الفطريات والبكتيريا من ناحية أخرى وبالتالي إصابتها، مؤكدًا أن تذبذب الإنتاج بشكل عام طبيعي في الفاكهة خصوصًا المانجو أن الحمل الغزير في موسم يضعف الشجرة لدرجة أنه يجعلها لا تحمل محصول تقريبا الموسم التالي، فيما يرجع د. محمد ممتاز، الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق التذبذب لاعتماد تلك المزارع على الأصناف المحلية ذات الأشجار المرتفعة التي يصعب مكافحة الآفات والحشرات فيها، وإلى قلة المعرفة العلمية لدى المزارع المحلي إضافة إلى تفتت الحيازة الزراعية بين العديد من صغار الملاك، مما يدفع بالمزارع إلى الإحجام عن رعاية أرضه.
تطرف مناخي .. محاصيل أقل
“أبو مالك”، صاحب مزرعة بالإسماعيلية خسر نصف محصوله بسبب التغيرات المناخية، حيث هبت عاصفة في أواخر مايو وأوائل يونيو أدت لتساقط ثمار المانجو قبل نضجها، تبعتها موجة حارة في أول ومنتصف يوليو أصابتها بـ”لسعة شمس” (أحد الأمراض التي تصيب الثمار نتيجة موجات الحرارة)، الأمر نفسه حدث للسيد عبده، صاحب العشر فدادين بمحافظة الإسماعيلية، حيث تساقطت 50% من ثمار المانجو بمزرعته بعد العاصفة.
المعمل المركزي للمناخ الزراعي بمركز البحوث الزراعية، رصد تغيرا مطردا في الحرارة منذ عام 2008، يظهر إما في صورة موجة حرارة مرتفعة أو موجة برد شديدة أو تزايد نشاط الرياح وغيرها، كما رصد على مدار الأعوام الماضية تذبذبات في المناخ (تغيير في ترددات ومواعيد الموجات الحرارية والباردة) في فصل الربيع تحديدًا، وهي فترة محورية في إنتاج العديد من المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والطماطم والبصل وغيرها. تكمن خطورة تلك التغيرات في إحداثها تغير فسيولوجي في النبات، ويتوقف مدى تأثيرها على الثمار على عاملين: شدة الموجة وفترة التعرض للموجة وفق د. محمد عبد ربه – مدير المعمل.
ويرى د. فضل هاشم – الباحث بالمعمل، أن تغير متوسط درجات الحرارة يؤدي الى عدم جودة الإنتاجية الزراعية لبعض المحاصيل فى مناطق كانت تجود فيها، إلى جانب تصحر البعض الآخر. المناطق الساحلية حتى مسافة 30 كم بعد مستوى سطح البحر أكثر اعتدالًا في المناخ، بما توفره من رطوبة مرتفعة وحرارة معتدلة وقلة في التذبذبات المناخية.. وتزداد الظروف صعوبة مع الاتجاه جنوبًا.
الرطوبة المرتفعة سلاح ذو حدين بالنسبة للمانجو، فعلى الرغم من أنها عامل رئيسي في نضج الثمرة الجيدة، إلا أنها بيئة خصبة للفطريات والحشرات ومنذ 15عام تقريبًا، حدث تطرف في المناخ (موجات حرارية، موجات برد، رطوبة شديدة، عواصف ترابية، إلخ)، وبصفة عامة أظهرت المؤشرات تغير درجات الحرارة نحو الارتفاع، مع تناقص معدلات الأمطار، كما يؤكد الدكتور فضل هاشم.
الحرارة الشديدة أيضًا زادت أمراض البياض الدقيقي والعفن الهبابي، وتكتل الشماريخ الزهرية والإصابات الحشرية: التربس، والأكاروس، والحشرة القشرية. ويؤكد د. محمد عبد ربه، أن الموسم الحالي 2023، على عكس السنوات الثلاث السابقة شهد ارتفاعًا لدرجة الحرارة عن 40 درجة، ومستويات رطوبة قياسية جعلته الموسم الأكثر رطوبة منذ سنوات، الأمر الذي أضر بكل المحاصيل الصيفية وليس المانجو وحده، أما فصل الشتاء فقد زادت فيه موجات الصقيع لدرجة تجمد خلايا النبات.
المانجو الاجنبي .. علامة استفهام
لم يتجاوز التساقط عند أحمد عبد السلام، والتي تقع مزرعته بمحافظة الشرقية، عن المعدل الطبيعي لاعتماده على الأنواع الأجنبية “كيت تحديدًا” اتفق معه رضا عبد الرؤوف، مزارع من مدينة السادات بمحافظة المنوفية، والذي قاومت محاصيله الجو لكونها من أنواع أجنبية حسب قوله، إلا أن أشجار المانجو الناعومي لديه لم تنج من لسعة الشمس.
معظم أصناف المانجو في مصر واردة من الهند وجزيرة سيلان، ومع جلب محمد علي باشا المانجو إلى مصر لأول مرة، بدأت أصناف المانجو تتوطن بمصر عبر الانتخاب والإكثار، وأصبحت تُعرف بالأصناف المحلية.
ومنذ ثلاث عقود، بدأت المشاتل المتخصصة في استيراد أصناف جديدة، أصبحت تعرف باسم الأصناف الأجنبية، أقبل عليها المزارعون والتجار.
يرى المزارعين المحليين، بحسب حديثهم لمعد التحقيق أن الأصناف الأجنبية أشجارها أقصر وبالتالي هي أفضل وأكثر تحملًا للتغيرات المناخية، كما أنها مفضلة للتصدير، وبالتالي تحقيق ربح أكثر، أكد محمود كمال، مهندس زراعي، أن الأنواع الأجنبية هي التي عوضت خسائر الإنتاج المصري للموسم الحالي.
قال الدكتور محمد محسن عبد القوي – باحث بمعهد بحوث البساتين، إن المانجو الأجنبي مكلف ويضع المزارع في خطر مطالبة أي جهة أجنبية بحقوق ملكية فكرية في النبات وبالتالي مشاركته في أرباحه، أما د. محمد ممتاز، الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، فيعزي الإقبال على المانجو الأجنبي إلى صغر حجمها، وبالتالي قصر المسافة بين الأشجار (6 متر مربع بدلا من 50 متر مربع) أي زراعة عدد أكبر من الوحدات بالفدان الواحد، إضافة إلى إثمار الشجرة في 3 سنوات بدلا من 8 سنوات، ولكونها متأخرة النضج مما يمد موسمها لشهر نوفمبر وديسمبر على عكس المحلية.
وعن كونه أكثر تحملا للمناخ، قال د. عبد القوي إنها خدعة تنشرها المشاتل لتحقيق أرباح على حساب المزارع لكن الحقيقة أنها منتخبة في مناخ مختلف فكيف تكون أفضل من الأصناف المحلية، فيما يرى د. محمد ممتاز أنها ليست أكثر مقاومة للتغيرات المناخية، لكن حجمها يسهل عمليات المكافحة، وتوفير التحكم البيئي، والكثير منها مقاومة لمرض تكتل الشماريخ الزهرية. المستثمرون حريصون على تعظيم العائد وتقليل النفقات، وبالتالي توجهوا للأنواع الأجنبية. رغم ذلك منذ العام 2011 حدثت إزالة لمعظم الأنواع المحلية لصالح الأنواع الأجنبية، على حد قوله.
المساحات المزروعة والإنتاج بمصر خلال 15 عام
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، النشرة السنوية لإحصائات المساحات المحصولية والإنتاج النباتي.
حلول وسيناريوهات
الدلتا وأراض الوجه البحري كلها مهددة بارتفاع منسوب سطح البحر وبالتالي تملح الأراضي مع الوقت وقلة إنتاجيتها، وفق د.محمد محسن ود. محمد عبد ربه، وتتنبأ دراسة نشرت عام 2009 بانخفاض الدلتا بمعدل يصل إلى ٢ ملليمتر فى العام الواحد، يقابلھا ارتفاع فى سطح البحر المتوسط إلى حوالى ٧٠ سم خلال المائة عام المقبلة مما يجعل المياه تغرق بين 10% : 15% من مساحة الدلتا المصرية.
يرى د. محمد محسن الحل في الاتجاه للوادي الجديد ومزارع الصعيد بشكل عام، لكنه سيضع تحدي أمام مصانع التعبئة والتغليف والتبريد للحفاظ على المانجو لأن الموسم وقتها سيصبح في شهر “أبريل، مايو، ويونيو” بينما يرى د. محمد عبد ربه أن ترك أرض الدلتا مستحيل، حيث توفر وحدها 40% من الغذاء بمصر وأراض أخصب من الصحراوية، وأن استصلاح الفدان الواحد يكلف 5000 إلى 8000 دولار .
والتحدي الآخر هو الفقر المائي، حيث تتعرض منابع النيل لموجات جفاف مسببة عدم استقرار في نسبة مياه النيل، وعدم وجود مصادر أخرى للمياه، وهو ما تؤكده الدراسات التي تتوقع وصول نصيب الفرد في مصر من المياه إلى 550 متر مكعب عام 2050 وهو تحت حد الفقر المائي المقدر ب1000 متر مكعب بالعام. إضافة لاستمرار ارتفاع درجات الحراة، ينصح د. محمد محسن بالعمل على تطوير الأصناف المحلية وانتخاب وإنتاج سلالات هجينة جديدة تتشابه مع المحلية في الجودة والطعم والأجنبية في غزارة الإنتاج كما تتحمل تغير الجو والأمراض والحشرات بدون رش مبيدات، فيما يؤكد د. محمد ممتاز على المكافحة الجماعية من وزارة الزراعة.
مواجهة التغير المناخي ليس مستحيل ويمكن إيجاد حلول للتكيف، مثل زيادة سمك جدار النبات عبر تغذيته بالسليكات، توفير سبل الحماية المناسبة للأشجار، كمصدات الرياح لحماية الثمار من التساقط، وفق د. محمد عبد ربه، وقد أجرى معمل المناخ الزراعي بمركز البحوث الزراعية دراسة عام 2009 حول الزراعة تحت الصوب الخشبية المغطاة بالشبك، والتي توصلت إلى جدواها في حماية المانجو من لسعة الشمس على الثمار أو الإجهاد النباتي نتيجة الحرارة الشديدة أو حتى البرودة الشديدة وزيادة نسبة الرطوبة من 4% :8% مقارنة بالحقل المفتوح، وقد نجح مزارعون في تطبيق البحث العلمي والتكيف مع المناخ.
رد وزارة الزراعة
تواصل معد التحقيق مع المهندس محمود فوزي عطا، رئيس الإدارة المركزية للبساتين والمحاصيل الزراعية بوزارة الزراعة والذي أفاد بأن
الموسم الحالي (2023) تأثر بشكل طفيف بالتغيرات المناخية، ولم ترصد الوزارة شكاوى حول قلة في الإنتاج سواء في السوق المحلي أو في التصدير، فلا توجد مشاكل لهذا الموسم إلا المشكلة التي يعاني منها العالم كله وهي التغيرات المناخية وتقوم الوزارة بدورها في الإرشاد الزراعي من خلال التوصيات الفنية الشهرية لمواجهتها، كما تعمل من خلال مركز البحوث الزراعية على إنتاج أصناف جديدة.
الأصناف المحلية لا يمكن تغطيتها بينما الأصناف الأجنبية يتم التعاون فيها مع المزارعين لتغطيتها بالشبك في مواسم البرود، أما مصدات الرياح، فإن الوزارة لا تقوم بتوفيره لاختلافه من منطقة لأخرى ورغبة كل مزارع، حيث يلجأ البعض لعمل سور شجري والبعض الآخر سلك شائك أو سور خشبي.. إلخ، وفق محمود عطا.
كما أكد أن دخول أي شتلة مستوردة إلى مصر وتطعيمها بالصنف المحلي يتم تحت إشراف الإدارة المركزية لفحص واعتماد التقاوي والإدارة المركزية للبساتين والحاصلات الزراعية، ولجنة تقاوي المحاصيل الزراعية والحجر الزراعي واللجان البحثية، وأن تلك المشاتل تخضع لرقابة الوزارة وزيارة لجان بمعهد بحوث البساتين ومعهد بحوث أمراض النبات لتقديم التوصيات المناسبة، وذلك لضمان انتاج شتلة مطابقة للمواصفات ومقاومة للتغيرات المناخية. صرح محمود عطا أيضًا بلجوء بعض المزارعين لإحلال صنف بدلا من آخر أو تقصير الأشجار البلدية لتطعيمها بأصناف أجنبية حديثة، لكن لا تُزال من الجذور، وهنا يقوم المزارع بتقديم طلب للوزارة وتتم العملية تحت إشرافها ورقابتها.
وصلت خسائر المزارع أسامة حشيشة إلى 40% من الطرح.
أبو مالك لم يستطع علاج محصوله المصاب واضطر لرميه.
سيد عبده بالرغم من خسائره لن يغير الأصناف المحلية التي يزرعها في السنوات القادمة.
أحمد عبد السلام لم تتأثر محاصيله بينما رضا عبد الرؤف لم تتجاوز خسائره 10% من الطرح.
رغم ذلك، في أوائل يونيو لموسم 2023، امتلأت الأسواق بثمار مانجو ذابلة معالجة بمواد كيميائية كحل قام به المزارعين بدلًا من التخلص منها تمامًا، حيث أنها غير صالحة للاستهلاك الآدمي.